من قال لا أعلم فقد أفتى



نستقر في السكون، نلتقط الأنفاس ونتروى بعد أن كنا نهرول حتى اللحظة. أكثر أوقات الليل وجومًا، تلك التي تسبق اندلاع أذان الفجر. يظن المستيقظ فيها أنه لا بشر مستيقظ معه، من شدة السكون فيها.

ومع اندلاع أذان الفجر يقترب موعد شروق الشمس. لم ننتهي من المناوبة بعد، ولكننا ندنو من ذلك. 


جلس الطبيب المناوب وراء شاشة الحاسوب في ذلك الوقت ليكتب في ملف المريض:

لا أعلم.

ورغم السكون الذي التف به، لم يستطع دماغه المنهك أن يصل لتشخيص مجزي يصف حالة المريض كما نقرأ في الكتب الطبية، وبحوث قوقل بالغة الخطورة.


قضى هذا الطبيب المناوب ليلته في حالة تتجاوز الأرق، مرحلة تسمى العَجْز. الجسد يعجز عن المواصلة حتى لو كانت العزيمة قائمة.

ظل هذا الطبيب في ضغط نفسي طوال اليوم، لأنه مطالب بأن يكتشف الدفين داخل أجساد المرضى وينقذ حياتهم. ويُلقى عليه اللوم إن تأخر، أو تعثر، أو حتى وصل للتشخيص ولكنه عجز عن الإنقاذ. بسبب سوء الحالة الصحية، أو تأخر التدخل لأسباب تخرج عن إرادته. 

إن هذا الطبيب كان منهكًا، مفتقرًا للنوم، يقضي ليلته بعيدًا عن أهله، وهو تعيس من فرط العمل. ولكن الكلمتين التي كتبها في ملف المريض للتو، كانت أصدق كلمتين كتبها في ملف المريض منذ وقع عقده كطبيب.


لقد ظن هذا الطبيب قبل مزاولته للمهنة أن الطبيب يعلم كل شيء، ولا يُلام من يظن ذلك. يأتي الناس لعيادة الطبيب ويسألون أسئلة يصعب إجابتها إن لم تقرأها للتو. ويتوقعون إجابة دون تاريخ مرضي مفصل أو تحاليل مكثفة.


-يا طبيب لماذا يأتيني احساس الرفرفة في معدتي بعد الأكل مباشرة؟

-لماذا أشعر بالدوخة عندما أتناول الفلفل؟

-هل أستطيع تناول المغنيسيوم على معدة فارغة؟

لماذا تريد هذه المريضة تناول المغنيسيوم أصلًا؟ سأل الطبيب نفسه، كما سألت المريضة بل واحتار الطبيب أكثر.


ظل الناس يحملون أسئلتهم للطبيب وظل الأطباء يجيبون عنها، حتى ظنوا أن الطبيب يمتلك كل الإجابات. وكُتب عليه أنه لا يحق له ألا يجيبهم عندما يريدون ذلك. 

وكل عثرة يتعثر فيها المريض لسبب أو لآخر فإنه يرجع للطبيب ويبحث عن حلٍ لمعضلته. وإن فشل الطبيب غضب، حتى وإن كان سبب فشل العلاج هو عدم التزامه به.


وعندما يصل المرء إلى شفير الموت يهرع إلى المستشفى، سواء كان بسبب عارض الصحي شد عليه بعد فترة طويلة من التحمل، أو مباغتًا حصل فجأة. لا يهم فالطبيب لديه الحلول.

يجتهد الطبيب في كشف الدفين من خلال تاريخ مرضي مفصل، وفحص جسدي بحثًا عن الدلائل. تراه يبحث مستقتلًا، كأنه ينقب عن الطعام في صحراء قاحلة بعد أيام من الضياع والجوع.

وبعد كل هذا يأتي بتشخيص مبدئي يستطيع به إسكات المريض وأهله حتى الصباح. أو حتى تظهر الفحوصات الأخرى.

في بعض الأحيان يظهر التشخيص واضحًا للعيان، ولكنه معظم الوقت يظل متخفيًا تحت طبقات من الضباب.


يعالج الطبيب ما يظن أنه يتخفى خلف الستار، دون أن يستطيع اكتشاف ما خلفه. لأنه إن انتظر انكشاف الستار لتدهور المريض وهو ينتظر فحوصاته.

ويراقب أحيانًا دون تدخل، يترقب حدوث الأسوء ولا يستطيع منع حدوثه.

وإن تقطعت السبل، يعطي محلولًا ملحيًا يسري داخل العروق ويظنه المريض علاجًا سحريًا.


يمتلك منهجًا يتبعه عندما يصعب عليه إيجاد التشخيص. يستذكره من الجامعات العريقة واثقن المراجع. 

عندما يواجهه المريض بالأعراض، يتسلح الطبيب بالمنهج. مثل الخارطة التي توصلنا من نقطة ألف إلى نقطة ياء. 


لا يظهر التردد ويحسبه الناظر خارقًا، ولا يخبرهم عن كمية الاستشارات التي قام بها قبل أن ينقل لهم الخلاصة، ويصفونه بالعبقري. وينقل الخطة العلاجية من الكتاب ويطلقون عليه بطلًا.


إن الطبيب باختصار ليس علّامة زمانه، ولا يحفظ الكتب عن ظهر قلب. بل هو شخص يجيد ربط الأمور والاستنتاج، ومن ثم يتخذ القرار بناء على المعطيات. والمعلومة التي لا تحضره يستخرجها بسرعة من هاتفه الذكي أو دفتي الكتب، ويكمل السير طوال الليل حتى يطلع النهار.


ومع انبلاج الفجر، تنقضي المناوبة الطويلة… ولكن لا تنتهي الحيرة. ففي غرفة أخرى، وعلى سرير آخر، جسد جديد ينتظر، وأعراض جديدة تخفي خلفها سؤالًا لا يعرف له الطبيب جوابًا.

لكنه مثل كل مرة، سوف يقولها بصوت خافت:

"لا أعلم"

ومن قال لا أعلم فقد أفتى. مثل بقية البشر يجهل الطبيب ما خفي عنه.


    إرسال تعليق

    0 تعليقات