تسارع السيارات يجعل المنصوب من الأرض يترنح، واللمبات تومض في وضح النهار، والأرض تهتز من تحتها. تمر سريعًا من أمامنا لا تبقي ولا تذر. بينما يستكن السائق بداخل سيارته لا يرتد له طرف.
كأنه يتجاهل قدرتها على اقتلاع ما يعترض طريقها والمضي قدمًا.
اتقدم خطوة وأخشى أن تقتلعني احداهن ويعجز أن يحول بيننا شيء، فأتراجع من جديد لأقف خلف الحواجز.
كل هذا الفزع من العالم الخارجي، لأنني اخترت أن اطلب النجدة على حافة احدى الشوارع السريعة، فهو يعتبر القطب الآخر لما قاسيته بالأمس. يتباين حد التنافر، ولكنه لا يقارب الرعب الذي عشته في الأيام التي مضت.
لم أعد أذكر كيف صعدت من الأعماق، كل ما أعرفه أنني الآن واقف على حافة الصخب.
لقد كنت من سكان ما تحت الأرض، في مكان ينعدم فيه الصوت والحركة. لا رفرفة تقض مضجعي ولا حفيفًا يجعلني ألتفت. أقول أيام، ولكنها قد تكون أسابيع، لا أعلم على وجه التأكيد. ولكنني أنفي كونه دهرًا لأنني لست كهلًا.
إن ذلك المكان متعطل الزمن، ومنعدم النوافذ ليس فيه ما اتتبع الوقت من خلاله. ابحث عن قوتي متلمسًا ما حولي، ولا استبين ملامحه، لكنني اكله بكل الاحوال. ومع انعدام كل الحواس الأخرى يبقى التذوق منغصًا يفضح مرارة الحال الذي رُميت إليه.
أقاوم هلعي وأعاود طلب النجدة، ولكن السيارات بتسارعها هذا يستحيل عليها أن تقف دون أن تقوم بكارثة.
ازدرد ريقي استعدادًا لإطلاق صوتي، ولكنني أعي انعدام الجدوى من ذلك وألزم الصمت. إنني بالكاد اسمع أفكاري في هذا المكان، فكيف للمار أن يسمع النداء؟
أفكر في حلول أخرى ولا يطالني شيء، ربما لأن المؤثرات الخارجية الصاخبة قد شلت خلايا دماغي. ومع كل سيارة تمر يتضاعف عجزي.
وعلى حين غرة، سكتت عني الضوضاء وشيئاً فشيئاً صرت اسمع الصدى، يتردد ويعكس ما بداخلي. كأن المكان قد خلا إلا من أفكاري. وقتها فقط التم الناس حولي لنجدتي.
عادت إلي الضوضاء وهي أقل شدة، ووجدت نفسي ممددًا على سرير المستشفى، والمغذيات تخترق عروقي. عندها اكتشفت أني فقدت الوعي وها قد عاد من جديد.
تقدم الطاقم الطبي ليطمئن على لقيطته وبدأ بطرح الاسئلة. اسئلة يمنعني لساني من الاجابة عليها، إما بسبب عجزي عن الاجابة، أو جهلي بها.
ولكن السؤال الاكبر كان: من أنا ومن أي أرض قد أتيت؟
يثير صمتي قلقهم ويبدأن في مشاورة بعضهم. هل نقوم بعمل أشعة للتأكد من سلامة المخ؟ أم نأخذ خزعة من السائل الشوكي لعله التهاب السحايا؟ أم هي ضربة شمس ويحتاج المزيد من المحاليل؟
أم هو بكل بساطة أعجمي لا يفهم لغتنا ويجب علينا البحث عمن يتواصل معه.
بدأ ضجيجهم يعيد إلي الإعياء، والضوء المسلط علي قد أعماني. تصاعد الصداع واشتد. وعندها قررت عتق نفسي من كل هذا الألم والاتيان بجواب يسكتهم.
"أنا من العالم الآخر" بصوت خالطه الجد وبحه الزمن.
سكتوا برهة، ولكن سرعان ما تنامى القلق وتعالى الهلع، وعرفت وقتها أنني قد ارتكبت خطأ شنيعًا.
اعتبرني الأطباء مجنونًا ومصابًا بالفصام، ودعم شكهم منظري الرث، وكلامي الذي تردى من انعدامه في الايام الماضية.
بعد أن أتت فحوصاتي سليمة، عجلوا في استشارة طبيب الأمراض النفسية. والذي بدوره صدق القصة ووصف لي العلاجات.
تدفقت المهدئات في عروقي، ومن ثم ثقل دماغي وتعذر علي الادلاء بحق أو بباطل.
سجوني في غرفة لا تفتح من الداخل، وأطلقوا عليها غرفة الأمان، فهم بها يأتمنون أرواحهم من المجانين.
لم أكن أعلم أن في المستشفيات مخزونًا احتياطيًا من الزنزانات. وانتقلت من سجن إلى آخر، ولكن هذه المرة على مرآة العين.
ولا يدخل علي طبيب إلا ومعه ممرض يحمل بيده المهدئات. إن اهتاجت أعصابي من كثر القمع تسلحوا بها، وإن سكت أراحوني منها.
وهكذا قضيت أسابيع لاحقة.
وهكذا، في سكون الغرفة البيضاء، انقطعت الصلة الأخيرة بيني وبين من تركتهم في الأعماق. وقُطع طرف الخيط الذي يدل على مخبأ الخاطف ورهائنه الجوعى.
0 تعليقات