تُركت هناك على المقعد، بعد أن كد المزارع تحت الشموس لكي تنمو. وقاوم سائق النقل النوم في سبيل إيصالها للوجهة. وأنفقت وزارة الصحة المال في شرائها.
كل هذا لكي يتناولها الطبيب المقيم المحب للموز والباحث عن الطاقة المستمدة.
ولكنها تُركت دون جليس، في غرفة فارغة إلا من القهوة الباردة ومعمول الأمس. لكي تلقى نصيبها من الأكسدة وتبدأ في التحول إلى عجينة طرية وداكنة اللون. إنها تلك الموزة المنسية.
فقد عجز مناوبي الصباح في يوم عيد الأضحى أن يصلوا للمستشفى، وفر مناوبي الليل مبكرًا لكيلا يُحتجزوا في الزحام.
وكلهم في النهاية اجتمعوا في الشوارع المزدحمة وتركوا المستشفى وما حوته من موز معرضًا للفساد والتعفن.
أو بالأحرى هذا كان تصورنا لذلك اليوم...
في القدم كان المحارب يسير على ساق واحدة ساعيًا في البر والبحر. وفي بعض الأحيان تُقطع يده ويستمر في حمل السلاح حتى تنتهي الحرب، إما بمقتله أو وقوع الهدنة.
يتسلق الجبال ويعض الانامل من البرد، ومن ثم يحفر لنفسه حفرة ويتدثر بالأرض حتى تطلع الشمس وتدفئ الكون. كل ذلك في سبيل لقمة العيش.
يغطس في الطين بحثًا عن الطريق، ويفعل المستحيل لكي يصل لخط النهاية. وإن أمسك به الأعداء أقاموا عليه الحد أو عذبوه أشد العذاب، ولذلك كان يهون عليه السعي بأطراف مقطوعة على أن يتوقف ليقع في الأسر.
نحن لا نحاول مقارنة صعوبات الزمن الغابر بصعوبات الحاضر. فلا وجه للمقارنة. ولكننا نذكرها تمهيدًا لوصف صعوبات الوصول الى الششة في الحج.
يبدأ المشهد من ١ ذو الحجة حين يصطف الجندي بجوار الجندي، وبينهما مسافة ١٠ أمتار لا تقل ولا تزيد عن ذلك. كلاهما انشغل في مهمته وابتعد باله عن الهذر الطائل، كأنهما خطان متوازيين ولا يلتقيان. وخلفهما سياج يمنعهم من السقوط عن الجسر.
وإذا ما سمحت لك الضرورة بتجاوزهم فسترى بعد الجنديين اثنين آخرين، على طول الطريق حتى نهاية الدرب.
زحام السيارات يتزايد ويقل أمامهم، ولكنهم ثابتون لا يفعلون شيئًا. أو هذا ما يظنه الرأي.
وبعد أيام من التقصي ينصب الجنود تفتيشهم عند كل منعطف ويستجوبون المار والقاعد. يشتد الحصار ويزيد الحذر مع كل يوم يمضي حتى يشرق يوم عرفة، ومن ثم يبلغ التشدد ذروته صباح يوم العيد.
وبانتهاء العيد يُفك الحصار وتستريح الأنفس، وتُفتح الطرق تدريجيًا حتى تسلك الشوارع من جديد. كأن العقد الذي انشد انقطع وترك خرزه يمرح دون قيود.
قصتنا لهذا اليوم تتناول في مضمونها أبطالًا يضطرون للخروج في هذا اليوم كل سنة، لمواجهة الحصار ضد أنفسهم وضد الظروف التي أجبرتهم على الخروج. والسعي للمستشفى كما يسعى الحجاج لبيت الله، رغبةً في تقديم الرعاية الطبية لمن أصابته وعكة صحية منهم.
كانت بطلتنا ريحانة سارحة النظر في النافذة، تراقب السيارات حولها وهي تتقهقر أكثر مما تتقدم، كأنها ملتصقة بالشوارع، تحاول زحزحة الصمغ بالمضي قدمًا فترتد للخلف.
عضلات ساقها تشكو من التشنج، فلا هي تستريح في ضغطها على الكوابح ولا تُرفع تمامًا، بل تبقى بين الاثنين تنتظر إشارة من السيارات التي أمامها لكي تزحف قُبلًا.
تستحضر الأغراض التي جلبتها بالخلف. سلة كبيرة بيضاوية الشكل مصنوعة من السعف، وتحوي داخلها معمول العيد، وحلوى. وبجوارها سلة أخرى مترعة بالعيديات. واحدة لطاقم التمريض والأخرى لزميلاتها من الطبيبات.
تعاود التفكير في الفعاليات التي ابتدعتها، وترفع صوت التكبيرات في مسجل السيارة وتبتسم. لقد تبقى القليل.
لقد اكتسبت ريحانة خبرة لا يستهان بها، من ساعات قضتها في التنقل في شوارع مكة أثناء الحج. في نهاية هذا الطريق يوجد حاجز، كأنه مجتث من الأرض. يظهر في هذا اليوم كل عام ومن ثم يختفي.
يقف أمامه عددٌ من الجنود، يعطلون السير ويجبرون السيارات على أخذ المخرج للعودة من حيث أتوا. كأنهم مشوا كل هذا الطريق عبثًا.
تذكرت أحداث العام الماضي بالتفصيل وقررت الانعطاف يمينًا قبل الوصول للتقاطع. لعلها تجد طريقًا يؤدي للمستشفى دون أن تطوف خائبة ثلاث مرات حولها، أو أن تضطر لركن السيارة في حارة بعيدة والسير على الأقدام محملة بكل هذه الأكياس. وكان لها ما أرادت.
قبل التقاطع المنشود زاحمت السيارات لكي تقترب من المخرج على يمينها. حشرت مقدمة السيارة بحذاقة وبطء خلف أول سيارة، ومن ثم أوقفت عشرة سيارات عشرة ثوانٍ كاملة لتعبر أمامها، وأخيرًا أشارت لأحد المستضعفين في الأرض أن يتوقف ويجعلها تكمل، ولم تكن إشارتها استئذانًا، بل تهديدًا. قطع الطريق عنوة ممن حولها قد أسمعها بعض الشتائم، ولكنها لم تهتم. فقد مرت السيارة سليمة دون خدوش.
تركت الطريق الرئيسي ذو النهاية المغلقة خلفها وقلبها ينبض بالسعادة، لقد تداركت الكارثة واقتربت من الهدف. بضع منعطفات تفصلنا عن المستشفى.
ولكن التنظيم كان لها بالمرصاد، انقطعت المنعطفات العديدة وأصبح الطريق المتبقي لها عبارة عن حائط يستحيل تخطيه.
ركنت السيارة في أقرب مساحة شاغرة أمامها وأخرجت الخريطة. إن كان الطريق الذي هربت منه من قبل يحيل إلى طريق العودة، فإن الطريق الذي اتخذته من خبرتها مسدودًا لا يُوصل لمكان.
أصابها الاحباط وهي تنظر للخريطة. الجو بالخارج رطبٌ وحار، والمشي على الأقدام سوف يستغرق ٢٩ دقيقة للوصول.
نظرت للخلف وهي تتخير الأشياء التي تحملها. هل تحمل سلة الحلوى لمعايدة المستشفى كاملة، أم تحمل عيدية زميلاتها المعدودات. وبالطبع اختارت الخيار الأول.
سارت في درب المستشفى والحمام يرفرف حولها ويهبط لفتات الخبز، والحجاج من حولها يحثون الخطى بقلوب مطمئنة وألسنة تذكر الله. احمرت خديها واسودت عينيها، ولكن جسدها بقي خفيفًا لا يرى سوى بلوغ الغاية.
ولو أنها انتظرت داخل سيارتها حتى يفتح الطريق، لانتظرت حتى اليوم التالي. ولكنها على الأقدام وصلت للمستشفى في الوقت المناسب.
وصلت ريحانة وزملاء عملها للمستشفى في الوقت المناسب. ولم يتسن للموز أن يفسد ويضمحل.
وهكذا مر أول أيام عيد الأضحى على عاملي الششة هذا العام مرور الكرام كما لم يسبق له من قبل.
"وإن اضطررت للنزول في أرض الله المقدسة خلال الحج، فاعلم أن السير على قدميك أسرع من السير على عجلات."
0 تعليقات