الوقت كالسيف



اجتمع أهل البيت في تلك الغرفة ذات السقف المنخفض. احتلت الكآبة أركانها، ورافق الحزن جميع محتوياتها. الأنوار مطفأة ومصدر الإضاءة الوحيد هو النافذة المربعة المواجهة للباب. اخترقت خيوط أشعة الشمس ذلك الزجاج النافر، واستقرت على الأرضية، ومن ثم امتدت لتسلط الضوء على الجثة التي استولت على قلب الغرفة. زاحمت رائحة الدماء ذرات الهواء حتى اختلطت بها واخترقت أنوفنا.


اقتربت أخت الضحية من الجثة. كانت الصدمة تعلو محياها، والدموع تنساب بلا كوابح على وجنتيها المخضبة بالحمرة. كانت آخر من شاهده على قيد الحياة. ثارت مخيلتها بمقتطفات حدثت قبل ساعات. كان يشاهد نتفلكس، فمه ممتلئ بالفشار، وصخب قرمشته ممتد للجيران. وقبلها كان يقضي وقته بين صفحات الفيس بوك يبحث عن نكتة سخيفة، وضحكه يهز الأركان. يا لها من مقتطفات بائسة، قضى حياته دون أن يضيف شيئاً للبشرية.


من وراء عتبة الباب وقفت أمه وهي تجهش بالبكاء. كم كان يزعجها كل يوم في المطبخ، يثير بصياحه حفيظتها، ويدفعها لأن تفقد أعصابها. يستعجلها لتنتهي من إعداد الغداء بسرعة، ومن ثم ينتقده دون أدنى تقدير. لم تدرك يوماً أنها ستشتاق إلى هذه التصرفات.


ومن بين الواقفين كان أحدهم قد امتنع عن البكاء، كان ملازماً للصمت وعيناه مسمرتان على الجثة. من دهشته لم يستطع تفسير ما يراه أو استيعابه. وبعد دقائق من التفكير المجهد صرخ فيهم: "سكوت! نحن أمام جريمة قتل". صُدِم الحاضرون وتفشت الحيرة، ومن ثم استداروا ناحية الصوت. فاستطرد " أتفهم أن الصدمة أعمتكم، لكن ألا ترون الدماء السائلة في الأنحاء، والشق الذي قطع الجثة إلى شطرين، هل تبدو لكم كحالة وفاة طبيعية؟".


عندها أدرك الجميع الموقف، وفطنوا إلى وجوب استدعاء الشرطة للتحقيق. وفي غضون دقائق وصلت الشرطة وعلى رأسها المحقق. لم يستغرق التحقيق وقتاً طويلاً، ولم يستلزم لا تفتيشاً دقيقاً، ولا رفع بصمات، ولا استجواباً مطولاً. لم يستدعي الأمر سوى بضع أسئلة وجهها المحقق إلى أهل الضحية، وما أن أجابوا تفصيلاً وإيجاباً حتى علت تقسيمات وجهه تلك النظرة الحصيفة. عندها أعلم الجميع بضرورة الاجتماع للكشف عن ملابسات هذه القضية.


في أحد أركان تلك الغرفة المقيتة، وُجدت منضدة وُضع عليها أغراض مختلفة. ارتكز المحقق على المنضدة ومال قليلاً ليلتقط مِن عليها شيئاً. حل على الحضور صمتٌ مهيب وهم يترقبون آخر استنتاجاته. أشار بسبابته نحو ما حمله في يده وقال: "هذا هو القاتل يا سادة." نظر الحاضرون إلى ما حملته يداه ووجدوه ساعة عادية. توجه تفكيرهم إلى أن الساعة هي مفتاح القضية. لكنه قطع شكوكهم بقول: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك".


أطبقت الدهشة على أفواههم حتى عجزوا عن الكلام فأكمل "أمامكم مستهتر لعاب، أضاع وقته ولم يدري أن الوقت قد حان."


وأُغلقت القضية على ذلك.

 

 

الوقت كالسيف


    إرسال تعليق

    0 تعليقات