الساعة الرابعة عصرًا وأنا في طريقي للمنزل. وجهي امتلأ عرقًا، وملابسي اكتست بللًا من بوادر رقبتي حتى أخمص القدمين. درجة الحرارة الخارجية تعدت الأربعين درجة. عيني بدأت تدمع من فرط فقد السوائل وجف حلقي مجففًا معه الأخلاق.
بجانبي يجلس طفل صغير ويسألني سؤالًا سخيفًا ثم يتبعه بضحكة ساخرة، ألكمه لكمة في بطنه ويقئ ما قد أكله منذ ساعات، وأبتلش أنا ببقعة تفوح رائحتها على عباءتي الفاخرة. هذا ما كان ينقصني فوق عطشي وعرقي يزيد قرفي.
أكبت الغيظ وأصرخ مخاطبة السائق "ألم نصل بعد؟" وأرجلي تهتز من قلة الصبر، سأجن حقًا سأجن. آخذ نفسًا عميقًا وأكبح جمح جنوني قليلًا، وأطمئن نفسي، ففي الرف الثاني من الثلاجة، وراء علبة الحليب، تركت بالأمس قارورة (بيبسي) زجاجية، حفظتها جيدًا ولن يعلم أحدٌ بها.
اتخيلها في يدي وقطرات الندى تقطر ثم تتساقط على المنضدة، التخيل وحده حفز غددي على العمل وبدأت ابتلع لعابي ليرطب حلقي ويصبرني حتى أصل. أستعيد رشدي فأتوقف عن التفكير فيه رفقًا بنفسي.
وبعد خمسة دقائق أعاود التفكير "هل بقي من علبة المصاص شيئًا؟" ثم أهز رأسي رافضةً وأقول "لا على حلقي أن يرتوي جيدًا والمصاص يقلل من معدل الشرب في الثانية، من الأفضل استخدام كامل حجرة فمي للارتواء".
أرى مسجد الحي، بدأت أقدامي في التحرك بالفعل، إنها التحمية حتى انطلق بسرعة عند الوصول.
أخيرًا لاح المنزل في الأفق، هل انتظر أم لا انتظر؟ عقلي يشاورني ولكن جسدي أبى الانتظار، وماهي إلا ثواني وانطلقت قدماي معلنة التمرد. اللعاب يفيض من فمي فيتساقط دون كوابح. طرحتي قد وصلت إلى مستوى خصري من الانزلاق، تداركتها وأحكمت رباطها، آخر ما أريده الآن هو التعرقل بطرحتي والسقوط أرضًا. لا تقلقوا، لم يشاهدني أحد من سرعتي فقد بلغت سرعتي ٢٠ سنة ضوئية في الثانية.
ها أنا ذا أمام الثلاجة. لا كلمات تصف مشاعري أو شكلي المزري، العرق، القيء، والطرحة الملتفة حول خصري. مددت يدي ببطئ لأمسك مقبض الثلاجة وفتحتها وكلي ترقب، وما أن شع نور الثلاجة الداخلي بدأت بالرقص فرحًا، يتوجب على لحظات الانتصار أن تحدث ببطء لكي تُوثق ويتمتع القلب بلهفتها مدة أطول.
بلغ نور الثلاجة أعلى سطوعه. انظر إلى علبة الحليب وبابتسامة بشعة أزيحه، ومن ثم تقع الطامة، لا وجود للبيبسي.
أتلفت برأسي أبحث عنه، وأزيح المزيد من الأشياء لعلي ألمحه. تزيد نبضات قلبي عندما أسمع صوت شفط وشرب ومن ثم ابتلاع. انظر ناحية الباب وإذا بفتى القيء يشرب البيبسي الخاص بي. يتملكني الجنون وأسلط عليه نظرات قاتلة. اشتعلت غريزة البقاء لدى الفتى وبدأ يهرب في الشارع وأنا وراءه، كفهد التشيتا عندما يلاحق فريسته -وربما شكلي قد بدا كذلك- صرخ بأعلى صوته "يلاحقني شخص ملموس".
تعاون أهل الحي على الإمساك بي وتثبيتي ومن ثم ربطي بحبال باحكام، واقتادوني لرجل ملتحي وبدأ يردد على مسامعي كلمات لا أفقهها. أردت أن أصرخ فيهم "لست ملموسة" ولكن لعابي خانني والتصقت خلايا فمي ببعضها، فقد جف من قلة الماء وكثرة الحركة.
مرت عشرة سنين على الحادثة، قضيتها بين أربعة جدران في مكان يدعى (مستشفى المجانين)، أبكي بحرقة كل يوم وأشتهي رشفة من البيبسي المسروق.تراودني الأفكار أحيانًا لتقنعني أنني في مرحلة ما من ذلك اليوم قد جننت فعلًا، ومن ثم أشتت الأفكار وألوم الفتى الذي دمر حياتي، ومن بين هذا وذاك انتهت حياتي.
النهاية
ملاحظة: كُتبت هذه القصة قبل سبع سنوات من تاريخ نشرها
0 تعليقات