أدى مناسك العمرة بكل إخلاص ومن ثم ختمها بقص بضع شعيرات من رأسه. إن هذا المعتمر التركي المسن قد قضى العمر كله ينتظر زيارته لمكة المكرمة، وحتى مع اشتداد الحمى والسعال لم يتوقف عن السعي والصلاة.
ولكن ما أن تحققت غايته تهاوى على الفراش من فرط المرض، وكأنما جابه جسده المرض لإنجاز المهمة وبانتهائها انعدمت حاجته للمقاومة.
أشعرته الحمى بالإعياء وتعرق إثرها حتى تبلل فراشه، وتخلل نومه ساعات من الاستيقاظ يعاوده النوم فيها عندما تصمت الكحة ويسكن الألم. اشتدت عليه الأعراض ووجب عليه رؤية الطبيب.
وفي لحظاته الحرجة مد يده لحقيبته الصغيرة المليئة بعلاجات السكر والضغط والتي بنظره كانت أدوية عند الحاجة وها قد زادت حاجته إليها. لم يتذكر آخر مرة تناولها لذلك تناول حبتين من كل نوع تعويضًا عما سبق، ومن ثم أغلق عينيه ينتظر مفعولها السحري.
استعاد المعتمر التركي وعيه والضوء فوقه يعمي عينيه، ومحلول السكر يسري في عروقه. يسأله الطبيب عن حاله ويجيب ببطء كمن يستجمع قوته "ماذا حدث؟".
يُترجم السؤال سريعًا من قبل المترجم ويعاد إليه الجواب بعد لحظات "لقد انخفض سكرك، وحرارتك مرتفعة".
يتقبل المعتمر التركي ما قيل له ويعود لغفوته، يوقظه الطبيب من جديد ويسأله " مما كنت تشكو؟"
يسرد عليهم بملل "الحمى والسعال قد تمكنوا مني وسكري منخفض" يعيد عليهم ما قالوه للتو وكأنه يستحدث أمرًا جديدًا.
لابد أن زائرنا العزيز قد التقط بعض العدوى أثناء أداءه للعمرة ومن ثم انخفض سكره نتيجة تناوله أدوية السكر بجرعات غير مدروسة، ومع المزيد من الفحوصات اُشتبه بإصابته بالدرن ونُقل إلى غرفة العزل الانفرادي.
تناوب عليه الأطباء والممرضات بالزيارة خلال بقائه في المستشفى، البعض منهم أراد معرفة المزيد عن تاريخه المرضي، والبعض الآخر دخل ليعلمه أن وقت الدواء قد حل. سايرهم في أسئلتهم، وتناول أدويتهم، وتحمل محاليلهم، وشكهم المستمر لقياس السكر، ووضع ناقل الأكسجين على أنفه رغم انزعاجه منه. هذا كله لطالما تواجدوا معه في الغرفة، ولكن ما أن يخرجوا حتى يفعل ما يحلو له.
يخرج المغذي من يده، وينزع الأكسجين عن أنفه، ويتمشى في الممرات والشوارع حتى يأتي من يحيله عن هواه ويعيده إلى غرفته. يعرض الجميع للعدوى ويتفادى العلاجات قدر المستطاع.
ورغم اقترافه للعديد من المخالفات إلا أن شكله عديم المبالاة كان يبعد الشكوك ويجعل الناظر إليه لا يلقي له بالًا.
كان الأطباء يحضرون المترجم التركي بشكل يومي لكي يطّلعوا على ما يبيت في قلبه، ويعاودون شرح خطورة الموقف لعله يصغي ويلتزم بالعلاج، لكنه لا يراها سوى فرصة لبث الشكوى والاعتراض.
بعد عدة أيام ارتقى سكره من القاع إلى السقف وخشيَ عليه الأطباء من حموضة الدم. أجلسوه وأعطوه المحاليل، وما أن تغفل عنه الممرضة للحظة حتى يختفي، ويلتقون به من جديد على مشارف السلالم، أو جالسًا على كرسي آخر الممر.
وعندما استحال على الجميع فهمه طلب الاستشاري منه شيئًا واحدًا "أعطنا عينة بلغم وإن كانت سلبية للدرن نستطيع إخراجك من المشفى، هذا كل ما نريده". ما أن أنهى الطبيب جملته حتى أخذ الحاويات الثلاث وملأها بما تفيض به حنجرته.
وما تلا ذلك أحداث متسارعة ما بين ممرضة ترسل العينات، ومختبر يظهر النتائج، وطبيب يكتب العلاجات استعدادًا للخروج.
كان أسرع مريض يُكتب له العلاج، كُتب حتى قبل ظهور النتائج، وأسرعهم بالخروج من النظام والمشفى بكبره.
خرج وقلوب الأطباء تدعوا له بالصحة التي لا تستدعي زيارة أخرى، وتنفس فريق التمريض الصعداء بعد النجاة من كارثة وشيكة.
تمت.
0 تعليقات