شمس ساطعة تتسلل أشعتها من بين الغيوم، ونسيم بارد يداعب أغصان الشجر، ورائحة بحر تفضح وجوده حتى عندما يغيب عن العيان. يتجلى هذا المشهد من مدينة طرفية تنأى عن الصخب، عاش فيها أناسٌ اتخذوا من الهدوء مهنتهم.
تقدم سائحين من قارة أخرى إلى داخل المشهد وأجسادهم يقودها الجوع، لقد انقضى وقت الظهيرة وولّى موعد الغداء، ومع أول مطعم يظهر أمامهم يتعلمون أن سكان هذه المدينة لا يقرون بالغداء كوجبة أساسية، وأن عليهم الانتظار حتى موعد العشاء لكي يحصلوا على وجبة مشبعة.
لم تعتد أجسادهم على هذا النظام، فساروا يبحثون عن بقالة محلية، أو منفذ طعام صغير، أو حتى موزع مؤن غذائية يتصدق عليهم بالقليل من الطعام.
وبعد ساعة من البحث المضني وجدوا محلًا يبيع بيتزا ساخنة. كان المحل عبارة عن باب زجاجي يشف ما بداخله، ومنضدة تحتل ٨٠٪ من مساحة المكان، خلفها رجل بالكاد يجد مكانًا يقف فيه، حوله كراتين بيتزا متراصة فوق بعضها، وفرنًا يخبز فيه. مجمل مساحة المكان لا يتعدى ٣ أمتار. ولكنه طعام يسد الجوع حتى موعد العشاء.
اشتروا مارغريتا ونوعًا آخر حوى الأنشوجة ومكونات أخرى تعذر ترجمتها. تناولوا العلب الساخنة من البائع وقلوبهم ترفرف من الفرح.
وجلسوا على كرسي يشرف على البحر، ويذر بقية المدينة خلفهم، كأنهم وقفوا على طرف العالم.
توالت اللقمات حتى سكت عنهم الجوع، وبدأت حاسة التذوق بالتذمر. كانت أطراف البيتزا محترقة، والأنشوجة شديدة الملوحة.
لا يرتقي طعم هذه البيتزا للمكان الذي خرجت منه، ويتوقع السائح أن يجد في إيطاليا أفضل البيتزا وحسب.
انتهوا من الطعام، تخلصوا من الكراتين، وأكملوا برنامجهم لليوم، ومن ثم توالت الأيام حتى انقضت اجازتهم.
يجلس أحد السائحين -سابقًا- بعد سنين من الحدث على مكتب تتراكم عليه أكوام من الورق، وسجلات مُدخلة على الحاسوب، تنتظر منه الاطلاع والعمل بها. العرق يتصبب من على جبينه بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وعيناه مجهدة من قلة النوم، كان يعمل بالأمس حتى ساعات متأخرة من الليل.
يقطع حبل الأفكار تنبيه من الهاتف، يشتت الفكر ويدعو للغوص فيه. وما يتلو ذلك تطبيقٌ يجر الآخر، حتى يقع ناظريه على صورة من تلك الرحلة. وفجأة يشتاق لطعم الأنشوجة المالح.
يشتاق إليه أكثر من نسيم البحر البارد، ومنظر الغروب على الشاطئ، والمبيت في الكوخ الريفي، وأكثر من جميع الوجبات الشهية التي تناولها بعدها.
يشتاق للأنشوجة المالحة بالذات لأنها كانت من وجهة نظره أكثر وجبات الرحلة نفورًا، وأكثرها تحفيزًا للحواس، ولكنها تظل أفضل بمراحل مما يفعله الآن.
وهكذا يصبح ما كرهه المرء ذات يوم هو أكثر شيء يتمناه.
0 تعليقات